خمس حكايات قصيرة عن "الست"

  • مقال
  • 03:27 مساءً - 17 ابريل 2012
  • 5 صور



صورة 1 / 5:
أنا لَمّا حَبيتك خطر على بالي
صورة 2 / 5:
وإيه يفيد الزّمن مع اللي عاش في الخيال
صورة 3 / 5:
وإن مَرّ يوم من غير لُقياك
صورة 4 / 5:
الوداع يا سِت
صورة 5 / 5:
هو انتَ تِقدر .. تِقدر تسلاني ؟!

تَقول الحِكاية ، أن النّاس اشتروا تذاكر الحفل الأخير ل أم كلثوم، والذي سيُقام في فبراير 1973 ، وحينَ لم تَعُد قادرة على مُغالَبَة مَرضها ، والحِفاظ على صورتها ، "السّت" ، بكُلّ ما تَحْمَله الكلمة مِن كَمَالٍ ، قرّرت إلغاء الحَفل ، وقامت الشركة المُنَظّمة بفتحِ شِبّاك التذاكر ، لإعادة ثَمَنها إلى الجمهور ...

(1)

واللّي هَوِيته اليّوم دايم وصاله دوم

يَذْكُر عارفو الشيخ "أبو العلا محمد" ، أنه كان شديد الخوف على أم كلثوم ، ويتوقّع لها حياةً قصيرة .

كان هو واحداً من أهم المُجددين في الموسيقى العربية مَطْلَع القرن الماضي ، من أوائِل من أدركوا أهمية التوافق بين الكَلِمَة واللّحن ، وكانت هي الفتاة الريفية ، التي تمتلك صوتاً عظيماً ، رآه الفرصة الحقيقيّة بالنسبةِ له كي يُعيد الغناء العربي إلى تُراثِه ، ويَبعث الرّوح في الموسيقى الشرقيّة بعد قرون كادت فيها أن تَنْدَثِر .

والشّيخ كان يؤمن أن الألحان يُنْشِئها الرّجال ، لكن يُجَوّدها النِساء ، وأم كلثوم كانت بالنسبةِ له أعظم المُجَوّداتِ من نساءِ العَرَب ، ولذلك كانَ يَخافُ عليها ، ويَعتقد أنها لن تُعَمّر في الحياةِ كثيراً ، لأنها ، كَما قال ، "تُغَنّي بدمها" ، تَحرق نفسها في الغِناء ، بكل رَوْحها .

لم يرها وهي ، في مَرحلةٍ لاحقة ، تُغنّي بكلّ جُزء في جسدها ، يَدها ، وجهها ، حركتها ، تَضْحَك وتَبكي مع كل كلمة تَنطقها ، لَم يَر ، ولكنه كان يعلم مُبكراً ما هِيَ عليه .

لم يَمر وقت طويل قبل أن يُصاب الشيخ بالشلل في عُمرٍ صغير ، توقف عن الغناءِ والتلحين ، ومُتابعة مشروعه مع أم كلثوم ، اكتفى فَقَط بأن أطلقها ، ساعدها في البداية ، وبقى معها لخمسِ سنوات ، ثم تركها وهو يعلم إلى أين سَتَصِل .

والشّيخ مات ، وبَقت السّت .

(2)

وإيه يفيد الزّمن مع اللي عاش في الخيال

ذاتَ يوم ، بعد أربع سنوات من لقاءهم الأول ، جَلَسَ أحمد رامي وقرّر أن يَكْتُب لأم كلثوم كُل ما يَحمله قلبه نحوها ، ويُحَاول أن يصل إلى نهايةٍ واضحة لكُلّ هَذا ، ولَم يَقُم من على كُرسيه حتى انتهى ، وفي الصّباح ذهبَ إليها يَحْمِل كِتابَه ، وقرأ عَليها "إن كُنت أسامح وآنسى الأسية" ، وحين وَصَل إلى "اوعى تجافيني يا نور عينيّ أحسن بعادك يهون عليّ" ، أدمعت عيناها .

في وقتٍ قريب من هذا الصباح ، نَظمَ القصبجي لَحناً مُدهشا للكلماتِ ، وأم كلثوم وَضَعت فيها جُزءً من روحها ، لتغنّيها على المسرح أول مرة ، فيُرَى الحضور وقد مَسّت في كُل منهم ضالاً يُلاحقه ، حُلماً لا يَكْتمل ولا يُترَك ، فأصبحت أنجح أغاني العشرينات كُلها ، وباعَت ، حين طُرحت على إسطوانات ، رُبع مليون نُسخة ، وكانت هي اللحظة التي أصبحت فيها "السّت" على القِمّة التي بقت عليها للأبد .

[http://www.youtube.com/watch?v=Yd9KBGkOCaM]

وليست الحِكاية هُنا عن نجاحِ الأغنية ، أو صعود أم كلثوم ، ولكنها عن رامي ، الشاعر الذي بقى مُحباً لخمسين عاماً أو يَزيد ، والذي لم يَكُن سعيداً حين وَقف مُشاهداً نجاح "إن كُنت أسامح" في المسرحِ أول مرة ، وهي تَمَسّ في الحضور وتراً موصول بجرحٍ عند كل منهم ، لأن ، ببساطة ، كانت هذه هي آلامه هو ، وجراحه هو .

وما قد يُرى من تِلك الحِكاية ، هي الصورة الأسطورية عن "أم كلثوم" ، المُتْوَحَشّة ، التي جَمَعت مُحبّيها حَولها ، تَمُص دَمُهم ، مجازاً ليس بعيداً عن الأسطورة ، من أجل البقاءِ على القمّة .

ولكِن ، أم كلثوم ، التي ظَلّت لا تُغنّي أي قصيدة لشاعرٍ حَي لسنواتٍ طويلة ، حفاظاً فقط على شعور رامي ، أسمته "شاعرها وخلِيلُها" حين سُئِلَت عما يعنيه بالنسبة لها ، أم كلثوم التي لَم تُحِبُّه ، ولكنها لم تُبدِ في أي وقت عدم احترام لمحبّته ، وتركت له حريّة القُربِ والبُعد دوماً .

أم كلثوم لم تَكُن مَصَّاصة دِمَاء ، وإلاّ لما بَقى كُرسي القصبجي فارغاً بعد وفاته ؟

(3)

هُوَ انتَ تِقدر .. تِقدر تِسلاني ؟!

القصبجيأحب أم كلثوم ، لأن الجميع يُحِبُّون أم كلثوم ! ، الجاذبيّة الأنثويّة الخاصة التي تَحملها ، الخَلِيط المُدْهِش بين الكِبرياء والدَّلَع ، ما يدفع الرّجال ، ليس فقط لأن يحبّونها ، ولكن أن يفضّلوا دوماً البقاءِ بقربها ، مهما بدا ذلك قاسياً وصعباً .

ولَم يَكُن القصبجي يَعلم أن "رق الحَبيب" ، من أواخِر ما سيُلحنه لها، بعد عشرون عاماً من الرّفقة كان فيها أعظم مُلحنيها ، ولكنه مع ذلك أخرج فيها كُل ما يعرفه عن الموسيقى ، وعن العِشقِ ، ثُمَ نَضَب ، أو رأت أم كلثوم ذلك ، وظَلّت على مدارِ سنوات تُشجّعه على مُحاولة التّلحين لها ، ثُمّ ترى أن ألحانه صارت مُفتقدة للبصمة التي مَيّزته .

[http://www.youtube.com/watch?v=orgWWhGmdCc]

كانت أم كلثوم لا تَطِيق الفَشَل ، ولذلك لم تَرِد المُخاطرة ، بقى بجانبها أستاذاً ومُعلماً ، كما وَصفته دوماً ، مُديراً لفرقتها ، وعازف العود الوحيد ، سَيّد عازفي العود في القرنِ كاملاً ، ولكنه لم يُلحّن لها منذ نهاية الأربعينات .

مات قصب في مارس 1966 ، قَبل أن يَحضر أعظم نَجاحات أم كلثوم ، في الحفلة التي تَلَت وفاته مباشرةً ، حينَ غنّت "الأطلال" لأولِ مرة ، كان كُرسيه فارغاً لا يَحمل سوى عوده ، والفرقة ظَلّت خالية من عازِف لأربعِ سنوات كاملة ، وحين سُئِلَت "السّت" ، أجابت بأن الكُرسي خالٍ من جسده فقط ، ولكنها تَشعر بروحه تُصاحبها دَوماً أثناء الغناء على المسرح ، وتشعر بالرّهبةِ منه .

(4)

وإن مَرّ يوم من غير لُقياك ...

بنهاية الأربعينات ، بدا وكأن رياض السُّنباطي قد تَسَلّم أم كلثوم يداً مِن يَدِ الأساتذة ، كانت قد توقّفت عن الغِناء للقصبجي ، وجرى الخِصام الطويل بينها وبين الشّيخ زكريا على خلافٍ مادِي ، لم يَبْقَ غير السّنباطي ، وكان كافياً .

طوال الخَمسينات ، لَم تُغَنّ أم كلثوم سوى سِت أغنيّات من غيرِ ألحانه ، والأبعد من ذَلِك ، أنه كان يُدَقق في ألحانِ غيره ، لأن الوقت جَعلهما لا يَنْفَصلا ، لَم يَعُد يُلَحّن لغيرها ، دونَ حُب القصبجي الذي أفقده رَوحه ، ولم تَعُد تغني لغيره ، إلاّ فيما نَدَر .

مع بداية الستّينات ، أدركت أم كلثوم أن الوقت يَمُر ، وأن المِياة تَجري ، وأنها يَجِب ألاّ تَشِيخ ، لذلك فقد قرّرت أن تبدأ مَرحلة جديدة ، تقترب بها أكثر من رَوحٍ شبابية ، مثّلها شِعراً عبدالوهاب محمد ومرسي جميل عزيز وأحمد شفيق كامل ومأمون الشناوي ، ومثّلها لَحنا بليغ حمدي .

والسّنباطي لَم يَكُن راضياً عن كُل هذا ، وجرى الخِصام القصير بينهم مَطلع الستينات ،و الذي امتد لعدة أشهر ، بعد رَفضه تَلحين أغنية ذات كلمات مُبتذلة كـ"حُب إيه" ، بل ورفضه لغناءها لها لأن ذلك لَيس من قيمتها ، ومُهاجمته لِلَحنِ بَليغ ، الذي لا يَلِيق بـ"السّت" .

صالحته أم كلثوم لاحقاً ، وبقى بالقربِ ، ليس مُلحناً وحيداً ، ولكن ظل الأكثر كَثافة ، ورأيه هو الأهم فيما تُغَنّيه ، رُبما لَم يَكُن راضياً عن "سيرة الحب" و"ألف ليلة وليلة" ، بالتأكيد كان يغضب ، مثلي ، من "الحُب كله" و"حَكَم علينا الهَوى" ، ولكنّه في المُقابل لَحّن لها "لسه فاكِر" و"ليلي ونهاري" و"القلب يعشق كُل جميل" ، أعادَ تقديم "أراكَ عَصِيّ الدّمع" بلحنٍ مُدْهش الجَمال ، وهو ، قبل كُل شيء ، قَدّم لها "الأطلال" .

وحِينَ رحلت أم كلثوم ، لَم يُلَحّن السّنباطي بعدها ، عجوزاً كان يَخْجِل من البُكاء ، تَرَكَ العود لستِ سنواتٍ بقت في حياته ، ومات بالرّبوِ عام 1981 ، قبل أن يَصِف كُل ما مَرّ به لسبعة عقود أو يزيد بأن "قصة حياتي هي أم كلثوم" .

[http://www.youtube.com/watch?v=l2KK8evrdzE]

(5)

يورد على خاطري كُل اللي بينّا اتقال

كان هُناك بيرمو الشّيخ زكريا ، ولاحقاً صار هُناكَ محمد عبد الوهاب ، مَرّ صلاح جاهين و كمال الطويل و محمد الموجي ، الشوقيّات التّسع ، وقصيدة ناجي العَظيمة ، وفي كل هذا كانت هِيَ ، "السّت" وكَفَى .

.
.
.

...... والنّاس ، الذين اشتروا تذاكر حفلها الأخير ، لم يَرُد أي منهم تذكرته بعد إلغاءه ، وبقى الجميع مُحافظاً على مَكانِ كُرسيه ، بانتظارِ عودة "السّت" لإقامة حَفلها من جديد .

وما تبقّى من كل هذا هو الحِكاية الأهم ، صوتها الذي يملأ شوارع القاهرة كُل لَيلة ، ويُشَكّل جُزءً من رَوْحِ المدينة ، العادة التي أبقى عليها المصريين رغم تغيُّر كُل شيء آخر .

وصلات



تعليقات