خمس حكايات سينمائية عن الرّحيل

  • مقال
  • 11:37 مساءً - 31 مايو 2012
  • 4 صور



صورة 1 / 4:
"هَشَاورْلَك بالجامِد كِدَه عشان تِعرفني"
صورة 2 / 4:
"خلاويص ؟"
صورة 3 / 4:
اللوحة الأخيرة لأندريه تاركوفسكي "إلى ابني أندريوشا"
صورة 4 / 4:
سيرجيو ليوني أثناء تصوير ملحمته "حدث ذات مرة في أمريكا"

الرَّاحِل الجَيّد هو من يَتْرُك فَراغاً لا يَلْتَئِم بآخرين ، كَسَفَرِ أعز الأصدقاءِ الذي لا يُشبه أحد ، والمُخرج الجَيّد تَكُون حَياته جُزءً من مَسيرته ، كِفيلمٍ طَويلٍ مُمْتَد لا يَنْقطع إلا بالموتِ.

(1)

شاهين .. نبوءَة ثَوريَّة

قبل خَمس سَنوات ، أصبت بالاكتئابِ عِدّة أيام بعد مُشاهدة الفيلم الذي صار آخر ما أخرجه يوسف شاهين " هيَّ فَوضى" ، كان عَملاً مُرْتَبكاً ومبتذلاً ، أرهقني أن يَكون خِتام المَسيرة العَظيمة بأسوأ أعمالها ، ولم يَكن من المُمكن أن أبدي بَعض التَّصالح مع كُل هذا إلا بيومٍ كالثامِن والعشرين من يناير .

الوقوف أمام مَبنى الحِزب الوَطني المُشْتَعِل في قرابة السادسة مَساءً ، كان دَلالة واضحة على أن ما يَحْدُث منذ صَباح اليوم لا يُمكن تَسميته إلا بـ"ثورة" ، ثم بدأت البَشَائِر تَهِل: ملايين المواطنين ، في سِتة وعشرين مُحافظة ، ذَهبوا في نَفسِ الوقت ودون أي ترتيب سابق نَحو أقسام الشُّرطة ، شَعروا بذاتِ الغَضَب ، صَرخوا بنفسِ الهِتافات ، وارتكبوا تِلكَ الأفعال: مُحاصرة وحَرْق واقتحام وإنهاء عقود طَوِيلة من القهر ، في لَحظةٍ عظيمة من اتفاقِ الوَعي الجَمعي لشعبٍ كامِل .. أسقط النّظام .

ثمانية وعشرون يَناير هو اليوم الذي تَحقَّقت فيه النُّبوءَة ، لتصير الحِكاية مُكْتَمِلَة ، ويُصبح لكلّ شيءٍ مَعنى ، ثمانية وعشرون يَناير هو المَشهد الأخير الذي أخرجه شاهين في "هِي فَوضى" ، ثُم رَحَل .

(2)

كيسلوفسكي .. هُناكَ الكثير من السجائِر في الجنّة

قَضَى المخرج البولندي " كِريستوف كيسلوفسكي" خَمسون عاماً مِن حياته وسط القهرِ السياسي في بلاده ، يقرأ الكِتاب المقدّس ، يَصْنع أفلاماً ، ويُدخّن السّجائِر .

لم تَكُن المَسيرة مُقدّرة في هذا الوقت ، تُمنع الأفلام حيناً ، وتَمُرّ عابرةً في أحيانٍ أخرى ، حتى فاز بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان عن " فيلمِ قصير عن القتل" ، ما لَفت الانتباه بدوره إلى سلسلته التلفزيونية "الوصايا العَشر" ، التي أنزلت على النبيّ موسى عليه السّلام ، وحوّلها هو ، مع رفيق دربه السيناريست كريستوف بيزيفتش ، إلى عَشر حَلقات تلفزيونيّة من أعظم المواد المرئية التي قُدّمِت يوماً .

بنهاية العِقد الخامس من حِياته ، انتقل كيسلوفسكي إلى فرنسا ، بمِنحٍ إنتاجية ضَخمَة لتقديم أعماله ، ودون أي رِقابة أو قَهر ، ظَلّ يَقرأ الكِتاب المُقدّس ، ويُدَخّن السجاير ، وأخرج الأفلام الأربعة الأخيرة في مسيرته ، التي كان من ضِمنها ثلاثيته العَظيمة "الألوان: أزرق ، أبيض ، أحمر" .

ومع خِتام عرض الثلاثية بفيلم "أحمر" ، في مهرجان كان عام 1994 ، صَفَّق الحضور لخمسِ دقائق كامله ، بينما وَقفَ كيسلوفسكي خَجِلاً ، ليخبرهم في المؤتمر الصحفي أنه يشعر أنه قال كل ما يُريد ، سيعتزل السينما ، ويجلس في الريف البولندي ، "ماذا أريد ؟ الهدوء ، لا أتطلّع لأكثر من ذلك" ، "من أنا ؟ مُخرج مُتقاعد ، تِلكَ هي الحقيقة منذ الآن" ، ثم ضاحكاً "لقد أصبح لديّ الآن الكثير من الأموال التي تكفيني لشراءِ السجائر ، لا أريد شيئاً آخر" .

بعدها بعامين فقط ، مات كِيسلوفسكي في بولندا ، بجانبه الكِتاب المقدّس ، وسيجارة لم تنطفئ ، ووراءه مَسِيرة سينمائية صار يُنْظِر إليها ضِمن أعظم ما أنتجته السينما .

(3)

كوراساوا .. مِثلَ سيرة ذاتية

هل كان " أكيرا كوراساوا"، الشّيخ والمُعلّم والمُخرج الياباني العَظيم ، يعلم أن هذا - تحديداً - هو آخر مَشهد سيخرجه في حياته ؟!

الفيلم "لَيسَ بَعد" ، والشّيخ في الثالثة والثمانين من عمرِه عام 1993 ، يَروي قِصّة بروفيسور التاريخ "يوهدا هيكين" ، الذي بدأ عمله وسط الطُّلاب في نهاية الأربعينات ، وقت أن بدأ كوراساوا مسيرته الإخراجية .

في كُلّ عام ، يَجتمع التلاميذ حول مُدرّسهم في عِيد ميلاده ، يَقولون له "خلاويص ؟" ، فيُجيب "لِسّه/لَيْسَ بَعد" ، هُناكَ المَزيد ، وفي المَشهد الأخير .. يَمْرَض المُعَلّم ، يَجْتمع الجَمِيع حَوله ، ويرى حُلماً ، كأحلامِ كوراساوا الثمانية التي أخرجها عام 1990 بشكلٍ أقرب للرؤى والوصايا ، يَكون فيه طِفلاً ، يَلعب "استغماية" مع البقية ، يُحاول الاختباء ، ويَستمع للصوت "خلاويص؟" فيُجيب "لسّه" ، "خَلاويص؟" "لسه" ، "خلايص ؟" .... ومَات

هل كان كوراساوا يَعْلَم ؟!

(4)

تاركوفسكي .. الوصيَّة الأخيرة لأندريوشَا

سبعة أفلام فَقط ، كانت كافية لأن يَحْتَل المخرج الروسي " أندريه تاركوفسكي" مَكانة استثنائية في تاريخ السينما ، ولَكِن أحداً لَم يَلْحَظ أن الرَّجُل وَسط هذا أنه قد أضناه التّرحال ، وأتعبه البَحْث ، وصَار يُقتل ببطء ، دَرجة كِتابة وَصيّته .

في فيلمه الأخير "القربانِ" ، يَتناول تاركوفسكي لَيلة عيد ميلاد ألكسندر ، الكاتب والفيلسوف ، الذي ينعزل بعيداً عن الناس ، بعد أن أرهق من بعدهم عن القيمِ الروحيَّة التي يؤمن بها ، لقد انتهى من العالم ولكن العالم لَم ينتهِ منه ، حربٌ عالميَّة ثالثة ستندلع قريباً ، وبدلاً من اليأسِ يُحَوَّل وَجْهته إلى الله ، ويَقْبل أن تكون روحه قرباناً لإنقاذِ حياةِ البشريّة ، وابنه قبل أي شيء.

كانت اللقطة الخِتامية للفيلم ، آخر لقطة لتاركوفسكي ، هِيَ لَوحة لشجرةٍ في طَورِ النّمو ، كُتِبَ عَليها "إهداء إلى ابني أندريوشا" .

عُرِضَ الفيلم في مايو عام 1986 ، ومَات تاركوفسكي بسرطانٍ مُفاجِئ في ديسمبر من نفسِ العام .

(5)

ليوني .. حدث ذات مرَّة

ما هو الشيء الذي يَستحق أن تَضع فيه 12 عاماً من عُمرك ؟

  • أن تُخرج فيلماً كـ"حدث ذات مرَّة في أمريكا"

بنهاية الستّينات، كان المخرج الإيطالي "سيرجيو ليوني" واحد من أنجح مُخرجي السينما على الإطلاق، لم يُخرج سوى ستة أفلام ، ولكنه خلق صنفاً سينمائياً مُستقلاً يُسمّى"السباجيتي ويسترن" ، مُقدماً من خلاله أفلام الغرب الأمريكي بروحِ العصابات الإيطالية ، ومحققاً إنجازات مُذهلة بقدرِ "الطيب ، الشرس والقبيح" ، و"حدث ذات مرَّة في الغرب" .

مع قدوم السبعينات ، عُرِضَ عليه أن يُخرج رواية ماريو بوزو التي تحمل اسم " الأب الروحي" ، ووضعت شركة بارامونت تحت يديه ستة ملايين دولار ، ورفضَ ليوني ، لأنه في الحقيقة كان يَضع عينه على تقديم رواية عصابات أخرى تحمل اسم "The Hoods" لهاري جريل ، والتي أنفق فيها اثنى عشر عاماً من حياته ، لتُصبح في النهاية فيلمه العظيم " حدث ذات مرّة في أمريكا".

كان ليوني يُشاهد اسمه وهو يَنْزَوِي طوال عِقد كامل ، من أحد أنجح مُخرجي الستينات ، إلى رجلٍ يَكاد يُذْكَر بنهاية السبعينات ، ورغم ذلك فقد استمر ، آلاف الساعات التي استغرقها كِتابة السيناريو وتعديله ، مئات المُمثلين الذين اخْتبروا في الأدوارِ الرئيسية والثانوية ، عشرات الأيام لإقناع المُنتجين مَنحه ثلاثين مليون دولار لتقديم مَلْحَمته ، ثم شهور طويلة لتصوير فيلم تَدور أحداثه في خمسين عاماً ، والحِكاية كلها في أن عمل كهذا لم يكن يتحقَّق سوى بالإيمان .

أفكّر في أحيانٍ كَثيرة في مَشاعر ليوني وهو يشاهد نجاح "الأب الروحي" ، والذي يعتبره الكثيرين أعظم فيلماً صُنِع في تاريخ السينما ، مشاعر النّدم التي تَنتابه ، أو الشَّك في أن رَفضه للفيلمِ كان صائباً ، التساؤلات حول ما يفعله مع "نودلز وديبرا وماكس" – أبطال فيلمه – لسنواتٍ طويلة ، أو اليأس من كونه سيرى النور ، ثم أفكَّر أيضاً في مَدى إيمان ليوني وتصديقه فيما يَفعله ، وأن جُزءً من روحه كان مُعلقاً بهذا العَمَل ، وأنه كان يَعرف أن بعض الأشخاص سَيعتبرون هذا هو فيلمهم المُفضَّل ، أكثر حتى من "الأب الروحي" ، وكانوا كافيين بالنسبةِ له كي يُجدَّد طاقته ويذهب وراء الضَّال لاثنتى عشر حولا دون أن يسأم.

استمر ليوني على قيدِ الحياة لخمسِ سنوات بعد إنتاج الفيلم عام 84 ، وبدا كأنه ، بعد رحلته الطويلة في الزمن والمكان ، قد تَعِب من التّرحال في البريّة ، فجَلَسَ يَستريح ، ولم يُخرج فيلماً آخر حتى مات في أبريل 89 ، ليبقى العمل الأعظم هو العمل الأخير ، كأفضلِ أشكال الرحيل المُحتملة.



تعليقات