مع "مدام كوراج".. ستودِّع خَوفك لا محال

  • مقال
  • 12:59 مساءً - 15 نوفمبر 2015
  • 1 صورة



مدام كوراج

يفتتح مرزاق علواش فيلمه " مدام كوراج" بخطوات متسارعة لاهثة خاطفة للانفاس، يركضها "عُمر" بطل فيلمه دونما اتئاد، بينما نجد في إثره أشخاص يحاولون الظفر به لتلقينه الويلات، فيُحيط مخرجنا بطله بالخطورة منذ اللحظات الأولى.. سواء كان باعثها أو فارًا منها، الآن نُدرك أن "عُمر"، فتى تحاصره المشكلات.

بعدها يتركنا علواش لنلتقط أنفاسنا مع كاميرته الهادئة، المستكشفة ببطء لأرجاء الجزائر الناضحة بتفاصيلها المختلفة وطبقاتها المتباينة، إلى أن يقطع "عُمر" الصورة مجددًا، لنجده ينتزع سلسلة من صدر أحد الفتيات، تاركًا إياها بين صرخاتها المُلتاعة وسط صديقاتها، ليفر هو بعيدًا بمغنمه منها.

بعدها تُفرد حلقة من الأشخاص بشكل هادئ ومتزن، يكشف لنا أبطال الفيلم بخلفياتهم التي تلاقت حسبما أملت المواقف والأحداث.. "عُمر" الذي وجد كيمياه الخاصة مع "مدام كوراج"، وهي الأقراص التي يتناولها فينتشي تمامًا مودعًا رأسه وخوفه معًا! فبمجرد أن يبتلعها يصبح قادرًا على الخوض في أي شيء مهما بلغت خطورته وغرابته، فلا يتردد في سرقة أي شيء من المارة للظفر بهذه الأقراص..

"سلمى" التي انتزع "عُمر" سلسلة والدتها الراحلة من على صدرها، وهي فتاة رقيقة مُهذبة ترعى والدها الذي أنهكته الصدمات وتغذى عليه المرض، بينما يُقيم معهما شقيقها العامل بالشرطة.. "صابرينا" شقيقة "عُمر" والتي تعمل تحت إمرة قوّاد لا يعرف الرحمة، فقط لتتدبر أمورها.. "زبيدة" والدة "عُمر" و"صابرينا"، والتي لا تنفك عن متابعة الأحاديث والخطب الدينية على التلفاز والمذياع بنهم خالص وإنصات بالغ الاهتمام، بينما تُلقي "عُمر" دومًا بوابل من السباب المتواصل، وكيف أنه بلا قيمة وأنها لا تحتمل وجوده على البسيطة، سباب لا ينقطع سوى بدخوله عليها ببضائع وخيرات، لا تسأل هي عن مصدرها وقد أغشتها فرحة ما حمله إليها، فتكتفي فقط بالتهليل والترحيب له، وربما هي من أكثر شخصيات الفيلم التي ستعلق مع المتلقي لخفة ظل ردود أفعالها وتركيبة شخصيتها الفريدة.. ثم أخيرًا "مختار" القواد الذي لا يهتم سوى للنقود التي تدّرها عليه فتياته من وراء زبائنه.

كما ذكرنا سلفًا، تتلاقى شخصيات الفيلم في حلقة مُحكمة الترابط باختلاف المواقف وتسلسلها، حيث نشهد قصة حب من نوع خاص تنشأ بين "عُمر" و"سلمى"، حين تأبى نظراتها المُلتاعة التي كساها الذعر -بينما يقتلع "عُمر" سلسلة والدتها من صدرها- أن تفارق مُخيلة "عُمر"، هي تراوده في أحلام يقظته وفي نوبات انتشائه بـ"مدام كوراج"، لنجده في موقف استثنائي، يتابع الفتاة ليلكزها في كتفها، فتستدير له ليُسكِن سلسلة والدتها في راحة يدها من جديد، وتقابله الفتاة بنظرات مذعورة غير فاهمة امتزج بها الامتنان، ومن ثَم يتابعها "عُمر" بعد ذلك ويتسمر أمام منزلها ليتابع شرفتها في شغف وقد أمست الفتاة عروس دواخله ونوبات انتشائه.. قصة حب فريدة ستروق للمُشاهد دون عناء، وسيترقب ما ستُسفر عنها بكامل اهتمامه.

لعل أبرز عناصر الفيلم، هي كاميرا مرزاق علواش الهادئة والمُلمة بكل التفاصيل، فكاميرته ترصد الحركة بأدق تفاصيلها في أغلب مشاهد الفيلم، مما يجعلنا نُعايش الموقف تمامًا دون أن نفقد ركنًا من أركانه، وهناك مشهدان تحديدًا تتجلى فيهما هذه الحالة بشكل أكثر تميزّا.. أولهما: حين يدلف "عُمر" إلى أحد المقاهي، ويتعاطى أقراص "مدام كوراج" بينما تنضح أنغام أغنيةٍ ما من مذياع المقهى، فيمتزج إيقاع الأغنية بحالة انتشاء "عُمر" بشكل بديع، وتُعانق صيحات بعض الرجال في الأغنية، تصاعد انتشاء عُمر بالأقراص، فنشعر أن الإيقاع وليد نشوة "عُمر" ونابع من داخله، ونُعايش حالة انتشائه بحذافيرها.. وثانيهما: حين يتعقب "سلمى" ويوُقفها على درجات بيتها، ليرفع عنها حجاب رأسها برفق، ويبدأ في تحسس معالم وجهها وقد غمرته عاطفته تجاهها، بينما هي تستسلم له بنظراتها البريئة الممتزجة بقليل من التوجس، مشهد دام لما يقرب من الدقيقة، فقط "عُمر" يمرر يده على تقاسيم وجه "سلمى" بعاطفة خلت من الغايات الشيطانية، فتعيش معه المشهد تمامًا وكأنك تشعر بأنفاس الفتاة وتوترها، وبعاطفة "عُمر" المتأججة تجاهها، ولا يملك عنها تعبيرًا سوى ما يفعله.

نهاية الفيلم ستكون صاحبة النصيب الأكبر من جدال المُشاهدين دون أدنى شك.. فالأمور ستتأزم وتتفاقم وتحتدم، منتظرين في لهفة عما ستنتهي إليه، ولكن تأتي النهاية بما لا تشتهي النفوس! قد يراها البعض ميزة، ولكن العدد الأكبر سيشعر بالضيق لهذه النهاية، فأنت بعد السرد المُحكَم للمواقف دون مغادرة أي تفاصيل، وبتأجج المواقف بين شخصيات الفيلم واحتدامها وتفاقهما بمنتهى التروّي والاتزان، بينما أنت تتابع في نهم متسائلًا عما ستسفر الأمور وما ستؤول إليه مصائر الشخصيات، يتركك علواش دون أي أجوبة لتساؤلاتك.. هي واحدة من تلك النهايات التي تترك المجال لآلاف التأويلات والتوقعات، حتى أنها قد لا يُصطَلح عليها كلمة نهاية مفتوحة، لأنها لم تترك لك احتمالين فقط تفكر بينهما، بل هي نهاية مبتورة الأطراف تمامًا، تترك لمخيلتك مصائر الشخصيات ومنتهى الأمور، لا إشارة هُنا لك، أو استرشاد بشيء يدنو منك أو يبتعد عن أي إتجاه، بل نهاية مبتورة الأطراف لم تترك لشخصية واحدة مصير يمكن التنبؤ به أو إمالة كفة أي احتمالية تخصُه! حتى أن معظم المشاهدين نهضوا من القاعة يتساءلون عما سيلُِم بـ"عُمر"؟ أو ما سيصيب شقيق "سلمى"؟ أو ما سيُلحق بـ"صابرينا" و"زبيدة" في مواجهة "مختار"؟ أو.. أو.. علامات استفهام لا تظفر بجواب واحد مُحدَد، ولهذا أعتقد أن نهاية الفيلم قد تُخِل بميزانه لنسبة كبيرة من المُشاهدين.

الفيلم جيد بالفعل، ويتميز بكاميرته التي نضحت بالواقعية والتفاصيل، مضفية سرد مُحكم للأحداث يسمح للمُشاهد بالمعايشة التامة في كثير من أوقاته، لكن النهاية وما تتركه لنا من تيهة وتخبط، أنقصت من قدر الفيلم ما كان يمكن تفاديه.



تعليقات