"مِن ضهر راجل".. الضربة القاضية ستأتي مِرارًا

  • مقال
  • 05:15 مساءً - 18 نوفمبر 2015
  • 1 صورة



من ضهر راجل

نحن بصدد قصة اكتشاف مُلاكِم منذ الصِغّر، فالعمل على صقل موهبته، ثم توجيهه في رحلة الصعود، القصة التي أمست "كليشيه" قدر ما قُدمَت في الفن السابع وقُتلَت استهلاكًا، فصار الحد الفاصل بها دائمًا وأبدًا، هو طريقة التناول وكيفية سرد الحدوتة، ومن خلالهما تتضح جودة الفيلم وتتجلى معايير الحُكم عليه، وفي طريقة تناول فيلمنا هذا " من ضهر راجل"، نجح مُلاكمنا وصُناع الفيلم مِن قَبله في توجيه "ضربات قاضية" لنا طيلة الفيلم في شتى المواضع والأنحاء! حتى أنك لا تلتقط أنفاسك مما يُعرض عليك، فقد جعلوا من "الكليشيه" عدة كليشيهات انخرطت معًا في بوتقة واحدة، ليصيغوا "كليشيه" جديدًا بدرجة الامتياز، فاق من سبقوه في شتى المعايير وعلى مختلف المستويات.

"رحيم" طفل صغير، ماتت والدته يوم مولده، ليتولى والده شئونه من الألف للياء، ومن خلال مشاجرة اعتيادية بين الصبي "رحيم" وصديقه في الحارة، يلمحه "ناصر" مُدرب الملاكمة، وينبهر لموهبة الفتى وقوة لكماته، فيبدأ في التشاور مع والده، على أنه يملك من الطاقات ما يُمكنّه لأن يكون ذو شأن عظيم، ويبدأ معه رحلة التدريب بالفعل.

"رحيم" يعشق "مي"، و"مي" تعشق رحيم، وتدور بينهما قصة حُب طريفة التفاصيل، لكنها تدور خِفية، خوفًا من "حِنِّش"، شقيق "مي"، والبلطجي الذي تقشعر لهيبته الأبدان.

كما أسلفنا الذكر، هي مفردات القصة المُعتادة، ونحن لا نُطالب بجديد، لأن الأمر قُتل عرضًا في الفن السابع بالفعل، ولكننا ننتظر حبكة التناول، ودرجة تغلغل القصة بنا وتورطنا معها، فيأتي الأمر على هيئة سيل من "الضربات القاضية" التي تُوجه لنا دون انقطاع، وفي حين أن لعبة الملاكمة نفسها تنتهي بضربة قاضية وحيدة لا غير، إلا أن صُناع الفيلم استباحوا توجيه ضربات قاضية لا حصر لها لنا، واستحلّوا دماءنا التي فاضت إثر ضرباتهم دون رحمة، وأكملوا على ذات المنوال دون ذرة تردُد!

لي مشكلة عاصرتها في كتابات محمد أمين راضي خلال مسلسلي " نيران صديقة"، و" السبع وصايا"، وهي تفتُق ذهنه عن فكرة مثيرة قد تلف الرؤوس، والكلام قد يستقيم مع المسلسلين، ثم يبدأ بإفراد الفكرة ونسج تطوراتها، ويُحكِم السيطرة على مجريات الأمور لبعض الوقت، بعده تبدأ الأمور في الخروج عن السيطرة، إلى أن تفقد السيطرة تمامًا بمرحلة لملمة خيوط قصته وختم قوافلها.. توسّمت أنه سيتفادى الأمر بكتابته أول فيلم له، على أن الفيلم مساحة أحداثه وحبكته ستكون أقل بمراحل –نسبيًا- من مساحة المسلسل، وهذا قد يسمح له بإحكام الأمر بقدر أكبر ولملمة الخيوط بشكل لا يترك ثغرات أو مراوغات من المنطق، لكن محمد أمين راضي أبى ذلك، وأفعم السيناريو بـ"تحابيشه" المُعتادة، وعوّض الخروج عن السيطرة في لملمة الخيوط، بتكثيف غير طبيعي بالتحولات الدرامية والمنعطفات المحورية بفيلمه، فتضيع الحبكة، ويصبح الأمر مبتذلًا غير قابل للتصديق.

بدأ راضي السيناريو بشكل جيد، وكانت البوادر طيبة، حتى أنني انسجمت في بعض المشاهد الرومانسية التي دارت بين آسر ياسين و ياسمين رئيس خلال الثلث الأول من الفيلم، فالتفاصيل بينهما كانت جيدة، والجمل الحوارية رشيقة، مألوفة، ولها وقع طيب مُحبب للذات، وهو أمر يجيده راضي بالفعل، وتبدّى لنا عدة مرات في قصص مسلسله "السبع وصايا".. ثم وبعد الثلث الأول من الفيلم، تأتيك التطورات الدرامية والتغيرات الجذرية سيولًا، تحولات درامية وجذرية من كل صوب وإتجاه، تحدث جيئة وذهابًا، أسهل من تقليمك أظافرك، وأيسر من تشذيبها! فلا منطق سيُلازمك ولا حبكة ستقنعك، الأمور تحدث أمامك بسهولة تامة، تنحرف وتستقيم، ثم تستقيم وتنحرف، لتعود مرة أخرى لاستقامتها، كل هذا في لحظات معدودة، وبيسر تام، تعشَّم منك تصديقه بقدر زائد، ولكن الأمر فعلًا زاد عن الحد بشكل مستفز، فهرب المنطق، وأصبح الفيلم مجرد صورة تهروّل بين مواضعها أمامك، وتشاهد أنت دون ذرة تأثر أو اكتراث! لهذا دعونا لا نتعرض لباقي مجريات السيناريو تفصيليًا، لأن تحولاته الدرامية عُرضت بكرم يتحلى بالبذخ.

هناك الكارثة التي فازت بتاج توجيه الضربات القاضية للمشاهدين على كافة المستويات، سواء ورقًا أو إخراجًا أو أداءً، وأقصد الفنان شريف رمزي، فهو كان مأساة بشرية تتحرك على قدمين دون ذرة مُغالاة! ولا أدري من أين أتى صناع العمل بمثل هذه الصلابة في عرض هذه الشخصية بهذا الشكل الكارثي، فشخصية "طه" التي لعبها شريف رمزي، هي شخصية كارتونية بشكل لا يُحتمَل، دعك من الأداء الفج ابتذالًا من الممثل، وصُب تركيزك على شخصيته التي رُسمت في خط وحيد يتيم لا شريك له طيلة مدة العرض.. هو ما يقرب من ثُلثي الفيلم، يظهر من خلف ستار الأحداث، ويشهد ما يدور، فيُمسك بهاتفه الخلوي مدبرًا المكائد وناصبًا الأفخاخ، منتظرًا -في هدوء سلحفاة ومكر ثعلب- نتاج مكائده الشيطانية، مشهد ظهور "طه" خلف ستار الأحداث، ثم تدبير مكائده عن طريق هاتفه الخلوي، مشهد تكرر بصورة مضحكة، وطوال نصف مدة الفيلم تقريبًا، ولا دور له سوى ذلك، ولا جدوى هنالك غيرها، لدرجة أنه كلما ظهر فجأة يتلصص ويستكشف الحدث من بعيد، ثم يستدير ليدبر مكيدته بهاتفه، أصابتني الثمالة ضحكًا، ناهيك عن أدائه الضعيف المبتذل الذي لا يحمل ذرة مجهود، وهو ليس صاحب اللوم وحده، فشخصيته طوال السيناريو لا تملك سوى خط واحد لا تحيد عنه، فنجح باقتدار في تلبس شخصية "جوكر الكوتشينة"، هيئًة؛ بشكله العجيب وتصرفاته وردود أفعاله الأغرب، ومضمونًا؛ فلا طائل منه أو تأثير طفيف عليك كمُشاهد، ورغم أن راضي ملكّهُ كثيرًا من الأمور والتحولات في الفيلم، إلا أن كل هذا يمر مرور الكرام عليك للأسباب المذكورة.

غير الموسيقى التي تهدر طول الفيلم بداعي ودون داعي -مع العلم أنها سيئة- لتزيد من ميلودرامية الأمور، التي كانت قد أتخمنا بها الورق بالفعل وسانده الإخراج باقتدار، لكن الموسيقى هي الأخرى حبذت توجيه اللكمات لنا في آذاننا! لتعذُّر مثل هذه المهمة على الصورة والسرد.

فضلًا عن المشاهد المكررة، التي تبخترت على الشاشة فاقدة لكل حياء، مشاهد عديدة واصلت التكرار بحذافيرها خلال الفيلم دون أي جدوى، دعك من العظيم "طه" الذي ظهر مرارًا خلف ستار الأحداث ليدبر مكائده بعدها، وصُب تركيزك على مشاهد البلطجة وما صاحبها من ضربات صاخبة، الفيلم اختزل ما يقرُب من نصف ساعة أو أكثر، في المعارك والضربات، سواء المحورية منها بالفيلم أو التي لا شأن لنا بها، غير مشاهد أخرى تعددت ذات طريقة عرضها بشكل باعث على الملل والضيق.

وهناك حيُل إخراجية، أتحداك أن تفهم لها مبررًا، سأخص منهم بالذكر ثلاث لقطات، الأولى: حين يستند "رحيم" على الجدار، وفجأة تدور به الصورة رأسًا على عقب عدة مرات في الشاشة، وتلبث لحظات مقلوبة ثم تستقيم من جديد! لقطة لن تفهم لها كينونة، وإن كان مخرجنا يقصد مثلُا، أن الدنيا دارت ببطلنا وظروفه انقلبت عليه، وتلك هي طريقته في التعبير عن الأمر، فعذرًا سأمتنع عن التعليق.

الثانية: مشهد يقف به "آسر ياسين" والكاميرا مستقرة على مؤخرة رأسه، ثم نجد الكاميرا تسعترض لنا أذنه اليمني من عدة زوايا ومناظير تباعًا! لماذا؟ هذا سؤال لن تظفر بجوابه.

والثالثة: مشهد درجات السلم الذي أخذت تدور الكاميرا معه بشكل مزعج هادر للتركيز، دون أي غاية أو سبب مقنع لذلك!

غير اللكمات التي فقدت تزامنها مع الصوت في كثير من المشاهد، حتى أن هناك لكمات عديدة طائشة ولم تصل لمواضعها، تحديدًا في لقاء نهائي البطولة قُرب ختام الفيلم، هناك لكمات عدة تشعر وأنها لا تصل لأهدافها، وكأن الصوت ناجم عن احتكاك الأيدي بالهواء! بينما اللكمات الوحيدة التي لم تخب، هي التي وجهها لنا صُناع الفيلم باقتدار، فكانت موفقة بالغة التأثير.

غير الميلودراما والصبيانية اللتان أفعمتا العديد والعديد من المشاهد، أبرزها مما أذكر، مشهد تمركز آسر و لطفي و محمود حميدة في نهاية الفيلم لمواجهة البلطجية، لتشعر بوقفتهم ومواضعهم القتالية، أنك أمام إحدى لقطات لعبة "Street Fighters" أو "مقاتلي الشوارع" الحاسوبية!

كلها عناصر جعلت من الفيلم أشبه بتلك اللعبة الصبيانية التي كنا نمارسها صغارًا، حين تتفق أنت وأصحابك على تأدية فيلم تكونوا أبطاله وتوسعون بعض ضربًا، مهللين بمؤثرات أفواهكم متقمصين الأدوار..

الفيلم –بأغلب أوقاته- كان بمثل هذه الصبيانية، مع ارتفاع مستوى الإمكانات بالطبع، لكن الروح الصبياينة واحدة؛ في ميلودراميتها السخيّة، بهرجة مؤثراتها عديمة الكفاءة، عدم اكتراثها بارتباطها بمنطق أو حبكة، وفعل ما لذ وطاب دون حمل أي مسئوليات.

ربما وليد فواز، هو أكثر نقاط الفيلم إشراقًا بالنسبة لي، خفيف الظل وأدى دور البلطجي بشكل يجعلك تحبه، وبه تقتنع في ذات الوقت، وكان ظهوره محببًا للمُشاهد في كل مرة يتبدى على الشاشة، حتى "إفيهاته" جميلة الصياغة –وهو أمر يجُيده محمد أمين راضي- وطريقة إلقاءها تلقائية بديعة من فواز، فستقتلع ابتساماتك دون عناء.

كذلك ياسمين رئيس، أعجبتني في مشاهدها الأولى بالفيلم، تلقائيتها وردود أفعالها خلال حديثها مع محبوبها، كانت آسرة بالنسبة لي في هذه اللحظات، لكن في النصف الثاني من الفيلم، وبعدما انفجر سيل التحولات والتطورات الدرامية، لم تكن هناك فرصة لاستيعاب أداء أو اندماج بحدث.

كذلك من الواضح أن "آسر ياسين" بذل مجهودًا كبيرًا ليظهر بمظهر المُلاكم الجيد في الفيلم، وهو أمر لا يستحق إغفاله.

هناك أيضًا المشهد الذي يقف فيه محمود حميدة لولده حتي يحجبه عن جبروته، كان به بعض اللحظات التي ستتسلل إليك.

وأكرر أن محمد أمين راضي افتتح السيناريو بشكل جيد وكانت البوادر طيبة فعلًا، وراقتني تفاصيل العلاقة بين البطل ومحبوبته، حين كان الأمر متئدًا يسمح بالمُعايشة، ولكنه –كعادته- رفض أن يُكمل على ذات المنوال، وفاض بمنعطفاته وتحولاته التي لا توازنها الحبكة.

فحين نتذكر مثلًا –ولا وجه للمقارنة طبعًا- فيلم Raging Bull للعظيم مارتن سكورسيزي، وكيف كانت طريقة السرد، وكيف أجرعنا تحولات البطل وتطورات الفيلم الدرامية رغم عُتوْ فوارق مراحلها، لكننا صدقنا كل شيء بكل تفاصيله لجودة الحبكة وملئها مساحاتها دون غفل ثغرات، أو نتذكر مثلًا –أكرر لا وجه للمقارنة- Cinderella man للجميل رون هاوارد، وكيف كان الفيلم مليئًا بالدراما الثقيلة التي تُنهك الأنفاس، ورغم هذا أقنعنا الأمر تمامًا وعايشناه بمنتهى اليسر لإتقان الصياغة، سندرك أن فيلمنا لم يصل لمرتبة الجودة العادية حتى، وربما قد نصدق فيلمًا مثل " حلم العُمر" عنه، أو نتأثر به بدرجة أكبر.

في النهاية أعود للقول، أن هذا ما وصلني أنا من الفيلم، فهو لم يعجبني أبدًا، وربما هي مشكلتي، أو أن الفيلم ليس بهذا القدر من السوء، فالجمهور شرع يصفق لأكثر من مرة طوال مدة عرض الفيلم! لكن عني، لم أتأثر به أبدًا وغابت عنه المنطقية والمقومات طيلة الخط تقريبًا بالنسبة لي، وأرى أن لو هذا مستوى إنتاج أفلامنا القادم، وهذه هي جودة عناصره، إذاً فــ"الضربة القاضية" ستأتي مرارًا.



تعليقات