"هذا المساء"... في عالم مفتوح على مصراعيه

  • نقد
  • 04:00 مساءً - 26 يونيو 2017
  • 1 صورة



هذا المساء

للمتعمقين في مطالعة العلوم الطبيعية، أو حتى ممن يعرفون الكثير من المبادئ اﻷساسية التي تحكم هذه العلوم، فإن لديهم بالتأكيد فكرة عن نظرية الفوضى أو على اﻷقل قد سمعوا عنها، والتي ترى -في أبسط صياغاتها الممكنة- أن أية حالة من الفوضى كما نراها نحن من الخارج، فإنها تحمل بداخلها عدد من العناصر النظامية التي تصنع مجموعة من المسارات الثابتة داخل كل هذه الحالة من الفوضى، بمعنى أنه حتى لو كان ما نراه مجرد كتلة خام من العشوائية والتخبط واللانظام، فإن وراء هذا المظهر الخارجي توجد أنماط يمكن السير وراءها وصولًا إلى نوع من النظام المستتر وراء هذه الصورة الخارجية.

شيئًا فشيئًا، بدأت تنسحب المبادئ الرئيسية التي تقوم عليها نظرية الفوضى من مراقبة العالم الطبيعي في البداية إلى العالم اﻹنساني كذلك، واﻷمر يحمل الكثير من اﻹغراء لتناوله من هذا المنظور، بما تحمله العلاقات الانسانية من تعقيدات وتشابكات لا حصر لها، والتي تتضاعف تعقيداتها مئات المرات مع التطور والتنوع الحادث في الحياة الانسانية بالتزامن مع تغير نمط الحياة ليصير أكثر تعقيدًا بشكل تصاعدي في ظل تطور الوسائل التقنية ووسائل الاتصال بين البشر التي حولتهم جميعًا إلى أفراد في منظومة واحدة فائقة الضخامة بحيث تسع اﻷرض كلها مستترة وراء قالب يبدو عليه العشوائية خارجيًا.

ربما تحمل هذه المقدمة السابقة مدخلًا يمكن الاستناد إليه للولوج إلى عالم مسلسل "هذا المساء" للمخرج تامر محسن الذي يحتاج في حلقاته اﻷولى بالذات إلى نوع من المثابرة في المتابعة، ﻷن ببساطة تامر محسن لا يهدر مجهوده وراء الحلول السهلة في التمهيد أو التعريف بالشخصيات وعالمها الخاص كما اعتادت أغلب المسلسلات، بل يضعك في قلب الحدث منذ أول لحظة بدون أي إعداد ويتركك أنت بمجهودك الذاتي في المتابعة لكي تتابع مسارات العلاقات التي قد تبدو غير واضحة في البداية، لكنها تتصل شيئًا فشيئًا ببعضها البعض في هيئة مسارات مفتوحة وفائقة التشعب، حيث تؤدي بنا المسارات الرئيسية التي اكتشفناها مع المتابعة إلى مسارات آخرى تتفرع منها وتتصل بها حتى لو بدت في البداية أنها غير ذات صلة بما وجدناه.

هذا الشكل الفني الذي يختاره تامر محسن لعرض حكايته المتشعبة يأتي كضرورة ملحة أملتها عليه طريقة تشكل العلاقات فيه وتركيبها عبر خطوط غير محدودة، حيث يستفيد بشكل كبير من مفردات التنكولوجيا الحديثة (الهواتف الذكية+مواقع التواصل الاجتماعي)، بانيًا خطوطه الدرامية الرئيسية وما يتفرع منها من خطوط فرعية على أساس الخصائص اﻷصيلة لهذه الوسائل السالف ذكرها التي تبدأ بالفرد من موقعه المركزي وتستمر معه لدرجة بناء وتشكيل علاقات مفتوحة ومباشرة أو غير مباشرة بعدد غير محدود من اﻷفراد، وهو ما يمنح المسلسل خاصية الربط الفائق Hyperlinking لبنيته تلك.

لكي أقرب لك الصورة أكثر، حاول أن تقرأ أول خمسون صفحة من رواية الكاتبة البريطانية ج. ك. رولنج "منصب شاغر"، ستجد نفسك محاطًا بعشرات الشخصيات الذين لا تدرك في البداية ماهية العلاقات المتشابكة التي تجمع بينهم داخل بلدة باجفورد الصغيرة التي تدور داخلها كافة أحداث الرواية، وتشعرك بحالة من العشوائية واللااتساق، لكن مع تجاوز هذه الصفحات الخمسين اﻷولى، ستتكشف مع الوقت كل المسارات غير المرئية وراء كل العشوائية الطافية على سطح الحياة في البلدة.

عودة مرة ثانية للمسلسل، فإن طبيعة هذه الحياة المفتوحة أمام الجميع عبر الشبكات تحطم كافة الحواجز المعتادة بين البشر على أرض الواقع، وتصير هنا هذه الحواجز غير فاصلة لدرجة قد تكون منيعة ضد أي حراك، إنها ليست منيعة ضد هذا، بل تحمل قدر معقول من المرونة لمن يدرك كيفية النفاذ أو لمن تتجاوز شبكة علاقاته هذه الحدود أو لمن لا يبالي بهذه الفواصل الطبقية كمثل أكرم الذي نراه للمرة اﻷولى على اﻹطلاق وهو يتجرع كوب من عصير القصب مع سوني وسمير ونظن في البداية أنهم رفقاء بينما اﻷمر في حقيقته كما نكتشف لاحقًا أنه رب عمل ثري يشرب العصير مع مرؤوسه، لذا يصير المسلسل سيرًا وراء هذا المنطق "عابرًا للطبقات الاجتماعية" جيئة وذهابًا، بل و"عابرًا للحواجز المكانية" سواء على المستوى الفعلي أو المجازي.

وفي نفس الوقت، ومع وجود حالات من الحراك الطبقي في دراما المسلسل، لكنه حراك ثابت، بمعنى أنه لا يترتب عليه بتاتًا أي تغيير يذكر في الوضع الطبقى للفرد، فأكرم الذي يشعر ببهجة عارمة في الاختلاط باﻷوساط الشعبية واختبار مسالكهم وأطعمتهم وجلساتهم، فهو يفعل ذلك لكسر روتين حياته أحادية البعد، مفرطة المثالية، محددة المسار، معلومة المعالم، بينما في رحلته مع سمير وعلاقته مع عبلة إنما يكتشف مستويات جديدة وغير منظورة من العالم بالنسبة لشخص في وضعه، وهو ما يترجمه تامر محسن على مدار حلقات المسلسل باﻹضاءة والفلاتر اللونية، وهو اﻷمر الذي سنتطرق إليه تفصيلًا في موضعه.

هناك حراك ثابت آخر، وهو حراك معنوي باﻷساس، والذي نجده لدى سمير الذي يعد هو واسطة العقد بين عالمين مختلفين كلية عن بعضهما البعض، فهو ابن الطبقة الشعبية الذي يسمح له عمله بالنفاذ إلى عالم الطبقة الغنية ورؤية ما يعيشون فيه مما لا يراه أغلب من ينتمي إليهم في نفس الطبقة، لكنه يقنع في الوقت ذاته بمجرد الحلم بحراك طبقي حقيقي من المستبعد كثيرًا أن يتحقق للكثير من الاعتبارات، وهو ما يعبر عنه بتجسسه على هاتف نائلة كنوع من الحب المستحيل أو النموذج اﻷعلى المنشود الذي يصعب الوصول إليه.

ومن هنا نلتقط خيطًا رئيسيًا يمسك بجميع العلاقات المتشكلة داخل المسلسل ويصنع لها مسارًا نظاميًا وسط حالة من الفوضى الظاهرية، فبينما جعلت الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي كل العالم مفتوحًا على مصراعيه، وتراجعت معه الخصوصية لدرجة الانعدام في حال معرفة وسائل الولوج اللازمة، بات الكل يرى بعضه البعض، ويرى كيف يعيش اﻵخر، ويضع نفسه في محل مقارنة مستمرة به، ويحاول أن يستجلب ما ينقصه من اﻵخر أو على اﻷقل يعوض هذا النقصان، وهو ما نجده في كل العلاقات هنا بلا استثناء: أكرم الشخص الثري والمدير التنفيذي لمجموعة شركات كبرى يبحث عن المتع البسيطة التي يعوض بها ميكانيكية حياته الشديدة وعمليتها المفرطة وفتور علاقته الزوجية الذي لا يريد الاعتراف به حتى لنفسه باللجوء إلى ممن يعيشون حياة عفوية كمثل حياة الطبقات الشعبية، سوني يحاول التعويض عن شعوره بالنبذ الاجتماعي والوحدة وعدم مقدرته على إيجاد من تحبه عن طريق التجسس على هواتف عملائه ليكون في موضع نفوذ يخول له الحصول على ما يريد ويعوض له ما يفتقده، سمير يعوض عن صعود طبقي مشتهى ومستحيل في الوقت ذاته بمراقبة نائلة عبر هاتفها كأنه يحاول تمثل حياة رئيسه في العمل ويحاول التعويض عن مشاعر غير متحققة على أرض الواقع كالمشاعر الرومانسية (علاقته مع تقى التي يخشى الاعتراف بها خشية اللوم المجتمعي) أو مشاعر اﻷبوة (علاقته بنور التي ليست من صلبه)، عبلة تبحث عن تعويض لزيجة فاشلة استمرت 12 عامًا بكثير من العنف وبدون أطفال حتى يحل أكرم الباحث عن مشاعر جديدة تحققها له عبلة، حتى نائلة المحبطة من علاقتها الزوجية الفاترة مع أكرم تحاول التعويض عنها بالانخراط في دوائرها الاجتماعية أكثر.

اﻷمر نفسه ينسحب على كافة العلاقات الفرعية التي تشكل بدورها امتدادًا للعلاقات الرئيسية في المسلسل: ماجد وهند اللذان يبحثان عن متنفس من رتابة علاقتهما الزوجية مع أشخاص آخرين بدون تورط يجعل خط الرجعة مستحيلًا، والدة نائلة التي تنتقل من علاقة ﻵخرى لكي تعوض ما حرمت منه في شبابها، شريف الذي يعيش في حالة صراع بين البقاء مع ما يحبها مهما كان ما سيقال عنه أو أن يسلك الطريق المضمون بزيجة ليس عليها غبار من الناحية المجتمعية، ضاحي الذي يأبي الانصياع للأمر الواقع ويتمسك باﻷمل في العودة لعبلة مهما كانت الوسيلة، نور التي تحاول عيش حياة شبه طبيعية في ظل غياب اﻷب واﻷم الحقيقيين كطفلة مثل كل اﻷطفال في نفس سنها، أم عبير التي وجدت ما افتقدته في حياتها الزوجية مع سوني الذي كان يستغلها جنسيًا، تقى الباحثة عن قشة تتعلق بها من الغرق وسط ظروف نفسية عصيبة وضاغطة وتجد كل هذا لدى سمير.

الكل هنا بلا استثناء -مهما كانت دوافعه وأساليبه- يبحث عن تعويض لما لا يجده في حياته لدى اﻵخرين بواقع من عمليات المقارنة الاجتماعية المستمرة بلا نهاية بين كل الشخوص مهما كانت درجة علاقتنا بهم أو قربنا منهم.

في مرات معدودة جدًا، وبحساب دقيق، يلجأ تامر محسن في اللحظات التي تنتظم فيها كل مسارات المسلسل في شكل خطي متناغم إلى إبرازها بالحركة البطيئة Slow Motion وكأنه يضع ألف خط تحت الروابط التي تجمع الكل بدون أن يدركوا هم أنفسهم ذلك بسبب حالة الفوضى السائدة التي تغشى أبصارهم عن الرؤية، مثل مشهد عيد الحب الذي يضع كل العلاقات المتشكلة على أرضية واحدة، أو المشهد الذي يقارن فيه حياة أكرم المزدوجة مع نائلة وعبلة وإشعاع إحداهما بضوء مشمس في مقابل سيطرة اﻷزرق الخافت على اﻵخرى.

من الملاحظ في المسلسل أن أكثر تجلي بصري واضح يبرز متلازمتي الفوضى والنظامية ويصنع لها بنية بصرية موازية للبنية الدرامية هو اﻹضاءة، ففي المنطقة الشعبية التي يعيش فيها سوني وسمير وعبلة وفي محيطهم الحياتي، هناك حالة من تشرذم وتشتت في اﻷلوان مع تضاربها ووضوحها الصارخ والفاقع، وهو اﻷمر النابع من عشوائية توزيع اﻹضاءة وتكدسها في محيطهم ما أعطى طابع بصري مميز لهذا المحيط، والذي يملك منظومته البصرية الخاصة التي تأتي بدون سابق اتفاق بين أهالي الحارة أو في أي محيط آخر يتواجدون فيه مثل مشهد القارب النيلي الذي تتجاوز فيه اﻷضواء ذات اﻷلوان المتنافرة جنبًا إلى جنب، وتتزاوج معًا مشكلة طابعها البصري النابض والحي الذي لا يعترف بالتنافر في المحصلة النهائية.

وعلى النقيض التام من تشرذم اﻷلوان الشديد في المحيط الشعبي، تسيطر حالة من الأحادية اللونية البصرية في الأحياء المرفهة باستخدام الفلاتر اللونية التي تميل في مزاجها للون الأزرق في أكثر درجاته خفوتًا ورمادية كدلالة على حالة الاستقرار الشديد التي يعيشها أبناء هذه الطبقة لدرجة توحي بوجود كل شيء في موضعه الملائم على نحو مفرط جدًا، فلا توجد تفصيلة تفلت من سيطرة هذا العالم وتنتظم في مكانها كما كُتب لها، هذا الهدوء اللوني الواضح المعاكس تمامًا لازدحام الألوان في المناطق الشعبية يغري المتابع للمقارنة بين الحياة هنا وهناك مثلما يقارن كافة الشخوص بعضهم البعض على حيواتهم ويورط المشاهد أكثر في حالة التلصص التي بات الجميع يمارسها بلا استثناء منذ فورة مواقع التواصل الاجتماعي التي قلصت مساحات الخصوصية ﻷقل حدودها.

وكما بدأ المسلسل في أول لقطة له بمعاينة شاشة مراقبة خلال عملية سرقة فاشلة من داخل غرفة مغلقة، ينتهي المسلسل في آخر لقطة له في مركب على النيل، بداية من نقطة متناهية الصغر إلى انفتاح لا نهائي للعالم، حيث ينفتح الباب على مصراعيه أمام مسارات جديدة بعرض النيل واتساع رقعة مياهه نحو خيارات غير محدودة وغير متوقعة بالمرة، وقد تدخلنا في شبكة جديدة من العلاقات لم نطرقها من قبل.

وصلات



تعليقات