"وساوس".. الخفايا تحت العباءة السوداء

  • نقد
  • 06:47 مساءً - 18 يونيو 2020
  • 5 صور



في كل مرة تقريبًا تدخل فيها امرأة مكان مغلق ضمن أحداث مسلسل "وساوس"، نجدها إما تخلع عبائتها بنفسها أو هناك من يطلب منها أن تخلعها. وإذا كان مسلسل المخرجة هناء العُمير، وأول إنتاجات "نتفليكس" الأصلية السعودية، هو عمل نسائي بامتياز، تقوم الدراما فيه بالأساس على لقاءات كاشفة بين نساء، فيمكننا توقع حجم تكرار هذا الفعل الاعتيادي، البسيط، الذي يُعد مدخلًا مثاليًا يمكن من خلاله قراءة عمل درامي يستحق التحليل. فإذا كانت حياة البشر عمومًا تنقسم شقين: خارجي وداخلي، الأول هو الصورة المعروضة التي يُقدم الإنسان نفسه للعالم من خلالها، والثاني هو الجانب المظلم الخفي، الذي قد لا يعرفه حتى أقرب الناس، فإن الأمر في المجتمع السعودي اعتاد أن يكون أكثر وضوحًا، بتباين كامل بين الخارجي والداخلي، تباين اعتدنا عقودًا على معادله البصري: العباءات السوداء التي ترتديها جميع النساء فتصرن في العلن نسخًا يصعب التمييز بينها، بينما تخل عنها داخل البيوت، فيظهر الشيء المنطقي في أي مجتمع وأي مجموعة من البشر، الاختلافات الكبيرة بين الأفراد، والعوالم الشخصية التي كان مفروضًا عليها طويلًا أن تظل طيّ الكتمان. يتغير كل شيء الآن. انفتاح ضخم تنتهجه الدولة مانحة فرص الظهور والتحرر والإبداع، والحياة، للجميع، وجيل شاب نشأ وهو يتلقى تعليمًا رفيعًا باليمين، ويتعلم مقارعة الممنوعات وقفز الأسوار باليسار، فكبر أفراده ولديهم علاقة أكثر عمقًا بما هو محظور، وقدرة أكثر فطنة على مداعبته، تمامًا كما حاولت هناء العمير أن تفعل في مسلسلها ذي الثماني حلقات.

عنوان خادع "وساوس" عنوان خادع بعض الشيء، يوحي – ومعه إحدى تفصيلات الحلقة الأولى – أننا بصدد دراما تتعامل مع الماورائيات. كيف لا والأحداث تبدأ بحادث سير يتوفى إثره حسّان (عبدالمحسن النمر)، لنكتشف أن علاقته بالواقع لم تنته عند رحيله. ومع خلفيات مسلسل "نتفليكس" العربي السابق "جن" والتالي "ما وراء الطبيعة"، يسهل على من لا يعرف أن يكوّن هذه القناعة الخاطئة. إلا أن مشاهدة العمل (من صناعة محمد عبدالصمد وأنور أبو الخير، تأليف هناء العمير ورولان الحسن) توضح إنها – التفصيلة الموحية بالرعب – مجرد حيلة جذب، تنتهي علاقة المسلسل بها سريعًا، لنتفرع للوساوس الحقيقية: الوجه المظلم للقمر، والجانب الذي يعيش البشر أعمارهم وهم يحاولون الحفاظ عليه في الظل. يُشبه حسّان هنا الضمان الأخير، الرابط الوحيدة لشبكة من الأسرار التي لا يمنعها عن الانفجار سوى وجوده، وبغيابه يزول هذا الضمان لنكتشف سويًا أن أفراد تلك الأسرة السعيدة الناجحة، وما حولهم من أصدقاء وأقارب، يخفون خلف الأبواب المغلقة، تحت العباءات السوداء، عالمًا مظلمًا، تخون فيه المرأة أقرب صديقاتها ويختلف فيه الأخ مع اخته على المال، ولا تجد فتاة مراهقة سوى الاستمرار في كذب وجهد غير مبرر، لاكتشافها أنها الوسيلة الوحيدة لضمان تواصلها الإنساني مع من لا يفترض منطقيًا أن يكون للتواصل معهم اشتراطات. في هذا الفهم الدقيق لموضوع المسلسل يكمن جزء كبير من قدرتك على الاستمتاع به، فالعنوان ثم القالب – الذي سنتعرض له بالشرح – يدفعان التوقعات صوب مسار بعينه، وقوده الاكتشافات المثيرة والصادمة، من ينتظره من "وساوس" سيصاب في الأغلب بالإحباط وربما الملل. بينما من يتعامل مع مسلسل هناء العمير باعتباره دراما شخصيات بالأساس، سيجد في ثنائية الصورة الخارجية والحقيقة المُخفاة ما يكفي من زخم.

ثراء القالب وعيوبه تنتهج المخرجة قالب الحكاية متعددة الرواة، أو للدقة متعددة وجهات النظر، بالانتقال خلال حلقات المسلسل الثماني من شخصية لأخرى، تُخصص حلقة لكل منها، فنتابع الحكاية من عيني الشخصية: عالمها وما احتواه من أسرار في الأيام السابقة لوفاة حسّان، ورد فعلها وتشابكه مع باقي الشخصيات وفقًا لخفايا الماضي. اللعبة هنا محفوفة بالمخاطر، تسير على حبل رفيع، فإعادة نفس الموقف مرة تلو الأخرى قد تأتي باختلافات نابعة من معلومات إضافية عرفناها من عيني الشخصية، فنفهم الموقف أكثر ونعمق علاقتنا بأبطاله، وقد تصير – في حالة انعدام الإضافة أو ضآلتها – حملًا يُثقل العمل بإعادات لا طائل منها. والمسلسل يلامس الحدين بالفعل، فتأتي بعض وجهات النظر كاشفة تُنير ما رأيناه سلفًا، بينما يمكن الاستغناء عن البعض الآخر، الخالي من الاكتشافات الكبرى على مستوى الحبكة. إلا أن هذا يقودنا إلى ما ذكرناه عن اختلاف التقييم وفق زاوية المشاهدة؛ فجمهور "وساوس" مثل شخصياته، لديه أكثر من وجهة نظر يختار بينها: فإما يتعامل مع الحكاية باعتبارها قصة تشويقية عن موت غامض وعلاقات متشابكة فحسب، فيجدها من هذه الزاوية أبطأ أحيانًا مما يحتمله النوع والقالب، أو يجعل الحبكة والتشويق مجرد جزء من معادلة دراما مشغولة بالأساس بتفسير تصرفات البشر، والتي لا يُشترط أن تكون دائمًا مرتبطة بجرائم أو أسرار خطيرة، بل يكفي معها سؤال "لماذا تصرفت هذه الشخصية بتلك الطريقة؟"، وهو سؤال في محله دائمًا وإن كان الحدث والتصرف منخفضي القيمة التشويقية. تمنعنا الرغبة في ألا نحرق الأحداث من ضرب أمثلة عن نوعية الحقائق الخفية التي نعرفها عن شخصيات المسلسل تباعًا. حقائق بعضها كبير يمكن تعريف حيواتهم من خلالها، وبعض صغير، عابر، لكنه ذو قيمة كبيرة في بناء الشخصية ونظرتها للعالم. كأن المخرجة في كل حلقة تُخلع إحدى شخصياتها العباءة، فنرى الشخصية على طبيعتها، بلا تظاهر ولا أقنعة. ينحاز "وساوس" هنا لاختيار متطرف بعض الشيء هو تفهم دوافع الجميع، بل والسعي لإنهاء كل حلقة وقد رأى المشاهد أن شخصية الحلقة ـ بشكل أو بآخر ـ خيّرة السريرة لم يكن أمامها إلا أن تفعل ما فعلته. (يُستثنى من ذلك شخصية العمّة، الوحيدة التي لا يبرئها النص كليًا). نصف الاختيار بالمتطرف لا لأنه مفرط في المثالية (فمن حق صناعة المسلسل أن يكون هذا رأيها في البشر)، ولكن لأن قصديته كانت السبب الرئيسي في الشرخ الذي شرحناه بين "وساوس" القصة التشويقية و"وساوس" دراما الشخصيات. الأولى متباينة الجودة والجاذبية والثانية ناضجة عميقة، لكنها تخاطب شريحة بعينها من الجمهور.

تحت العباءات مواهب غير أن الحقيقة التي لا غبار عليها أننا بصدد عمل ناضج، متعوب في كل تفاصيله، وضعت صانعته أهدافًا كبرى في شكل السرد ومحتوى الحكاية وطرحها الفكري. عمل يمكن الاتفاق أو الاختلاف حوله، لكن يصعب التعامل معه باستخفاف اعتدنا التعامل به مع الغالبية العظمي من الإنتاج الدرامي العربي، بل وكان مستوى إنتاجات "نتفليكس" الأصلية السابقة في المنطقة يدفعنا دفعًا لانتهاجه مع جديد المنصة حتى إشعار آخر. وعندما يأتي هذا العمل من السعودية، وتحديدًا من مخرجة امرأة تقدم عملًا بهذا الحجم للمرة الأولى، فهو أمر يستحق التنويه والدعم. وإذا كانت العباءات السوداء في "نتفليكس" تخفي تحتها أسرارًا وخفايا، فمن الواضح أن عباءات الفنانات السعوديات تخفي مواهبًا وجدت أخيرًا فرصتها كي تخرج إلى النور.




تعليقات